لم تكن إلا سويعات قليلة، ويصدح صوت التكبير بالمساجد، مُؤذِناً بعيد الفطر ومعلناً رحيل الضيف الأروع، انقضاء أعظم الشهور، شهر رمضان، شهر الجهاد والتضحية، كانت ألسُن الصائمين في بقاع الأرض تلهج بالدعاء، تبحث عن آخر فرص القبول والمغفرة. في هذه اللحظات، وكان للمسجد الأقصى والمجاهدين في غزة، المكانة الكبرى في أدعية المسلمين، فها هي غزة هبت لتلبي نداء القدس والأقصى، وسطّرت أروع ملاحم البطولة؛ ثأرًا من الغزاة البغاة محتلي الأرض والمقدسات. استوطنت السكينة والفرح القلوب حتى جاء الخبر، "ثلة من رجال القسام ترجّلت للقاء الباري على يد العدو الغاشم".
إنه يوم الأربعاء 30 رمضان 12 أيار / مايو 2021، تحجرت القلوب بانتظار جلاء الخبر، فقد اصطفى الله القادة عماد وجمعة وجمال ومحمود وحازم وإخوانهم من مجاهدي كتائب القسام لجواره، فامتزجت دموع الفرح بالحزن، فرح الاصطفاء وحزن الفراق، على من قد سبقوا ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الاحزاب (23)
محمود فارس (سامر)، ذاك الجميل الهادئ الذكي الحنون، غفا بين يدي أستاذه المهندس جمعة الطحلة ومعه في حجرة واحدة، عزما على الهجرة في سبيل الله إلى أرض الرباط والجهاد في غزة، عملا معا في تطوير أسلحة مجاهديها، كتب الله على يديهما ما يشفي به صدور قوم مؤمنين، حوصرا معاً ومُنعا من السفر، ثم ترجلا للقاء الباري معاً، فنِعم الصحبة ونِعم الدرب، وحَسُن الختام.
محمود ابن غزة البارّ من خان يونس، وُلد لعائلة ميسورة محبة للعلم والدراسة، انتدبه والده لجامعات سوريا لدراسة هندسة الميكانيك، فاستقر في جامعة اللاذقية، نشط محمود في العمل الطلابي، وكان أحد أبرز كوادره ومن قيادات العمل الجامعي.
وفي العام 2005 أطلقت دائرة العمل العسكري في الخارج " الإعمار" مشروع تصنيع الطائرة بدون طيار، وباشرت حشد الإمكانات الفنية والطاقات النوعية من كوادر ومهندسين، لإدارة المشروع من أبناء فلسطين والأمة الإسلامية. ثم ما لبث أن تولى الشهيد التونسي المهندس محمد زواري قيادة وحدة تطوير وتصنيع الطائرات بدون طيار.
تزامن ذلك مع تخرج المهندس محمود من الجامعة، وعُرض عليه الانتساب إلى صفوف كتائب القسام في دائرة الإعمار عام 2007، والعمل في قسم التصنيع الحربي فيها، وقد وقع الاختيار عليه ليكون من المهندسين الرئيسين في مشروع الطائرة من دون طيار. لم يتردد محمود بالاجابة على العرض والتقف الفرصة بنهم وشغف، حيث تدرب وعمل بصحبة الشهيد محمد الزواري، فكان يده اليمنى في تطوير العديد من النماذج.
طاف الأخَوان بقاع الأرض بحثاً عن العلم والتأهيل؛ وذلك تمهيدا لنقل التخصص والخبرة إلى غزة المحاصرة، وبعد سلسلة من الإبداعات بدأ التخطيط لعودة محمود إلى الوطن الأم، نجح محمود بالدخول الى قطاع غزة إبّان الثورة المصرية في عام 2011، وذلك برفقة زوجته الطبيبة ابنة أحد قياديي الحركة بالخارج وابنهما فارس، عمل محمود بدأَب وتفانٍ لإنتاج الطائرات وتطوير نماذجها الجديدة، وتأهيل الإخوة المهندسين على ذلك. لمَع اسم محمود عند العدو بعد "حرب السجيل" واستهداف ورشة تصنيع الطائرات، وذلك بعد أن رصد العدو تجاربها من الجو، حيث تمت التجارب بوجود الشهيد محمد الزواري، وأصبح محمود من المطلوبين لاستخبارات العدو. قام العدو في معركة "العصف المأكول" عام 2014 بتدمير منزله ومنزل أهله في خانيونس أمام نظر العائلة حيث لم يكن الشهيد موجوداً فيه.
لم تثنه الضغوط والحصار، ولم تفتّ التهديدات في عضده، بل زادته صلابة وجسارة وإصراراً على إيلام العدو وإبهار الصديق، بأبناء فلسطين وقدراتهم الإبداعية وفي شتى المجالات.
عشق محمود فلسطين منذ الصغر. كنا نسأله عن سر كثرة الشيب المبكر في رأسه رغم صغر سنّه، فيجيب "أنا من غزة مصنع الرجال منذ الطفولة"، محمود مهندس قسامي مجاهد، صاحب قلب رقيق وعاطفة جيّاشة، دمعته سخية حتى لمرض إخوانه، هادئ ولو هبّت العواصف، إنه أسد في الميادين صلب الإرادة جسور عند الشدائد عزيز على الكافرين رحيم بين إخوانه، لا يعرفه إلا من عايشه في الميدان وتحت أزيز الطائرات وقصف الصواريخ متمثلاً قول عنترة:
واختر لنفسك منزلاً تعلو به أو مت كريماً تحت ظل القسطل
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
عشق محمود ياسمين الشام وحارات دمشق القديمة، حيث كان يسير فيها ليلا ويحفظ حواريها وأزقّتها عن ظهر قلب، إلى أن عاد إلى فلسطين الوطن. امتزج عِشْقُ الشام عنده بعنفوان المقاومة وإرادة القتال، بحُبّ الأقصى والارتقاء إلى ذروة سنام الإسلام، إنه الجهاد أرفع المراتب وأربح الصفقات. عمِل وعمِل، جَدّ فوَجَد.
نم أيا محمود الفارس قرير العين. عملت لرضى الرحمان فاصطفاك في خير موضع، وعلى أطهر أرض وفي أعظم الشهور وفي العشر الأواخر من رمضان، قائماً للجهاد. أبرقت شهادة محمود وصاحبه الفارس المهندس جمعة فامتزجت دماؤهما بدماء شهداء غزة، واحتضن ترابها جسديهما الطاهرين بجوار إخوانهم المجاهدين، وسطّرت هذه اللوحة وحدة أبناء الحركة في الخارج والداخل، أبناء غزة والشتات، ومشروعهم الأسمى تحرير فلسطين.
إنهم السفراء المقيمون، أحسنوا الهجرة والإقامة، فنعم الضيوف هم. ها هي طائراتك يا محمود تحلّق في سماء فلسطين. تقذِف الموت الزؤام في قلب بني صهيون، اليوم يا محمود حقل الغاز أُغلق، ومصانعهم تفجرّت، وجنودهم قُتلوا، والآتي نعلم أنه أعظم باذن الله، ها هي أناملك تحلق مع روحك في سماء فلسطين شهاباً وأبابيل. أبناؤك وأحبابك وفّوا العهد، وأحسنوا الصنعة والتعلم، نم قرير العين، فنعم العمل الذي عملت، ونعم المنزلة التي نزلتَ، نحسبك ولا نزكيك على الله.
(منَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا) سورة الأحزاب - 23