القاهرة – حظيت مخطوطات اللغات الأفريقية المدونة بالحرف العربي -الذي أطلق عليه قديما في أفريقيا "الحرف العجمي"- باهتمام لافت في الفترات الأخيرة من باحثين وهيئات في القاهرة والدول العربية والأفريقية وفق رصد لمراسل الجزيرة نت.
وتتميز هذه المخطوطات -وفق بعض الدراسات- بأنها تمثل كنزا إستراتيجيا لإعادة اكتشاف أفريقيا ما قبل الاستعمار، والتأريخ للأوضاع الاجتماعية والثقافية المتشابكة مع البعد العربي نتيجة تفاعل إسلامي عربي أفريقي مبكر.
اقرأ أيضا
list of 4 itemslist 1 of 4
مخطوطات تمبكتو لم تفصح عن كل أسرارها
list 2 of 4
باحثون أميركيون يسعون "لرقمنة" المخطوطات العربية بتقنية التعرف البصري
list 3 of 4
مخطوطات غزة.. محاولة لترميم كنز علمي يعود للقرون الوسطى
list 4 of 4
انبعاث الضوء الساحر.. الإضاءة في المخطوطات الإسلامية القديمة
end of list
وتشدد الدراسات على أهمية زيادة الاعتناء بهذه المخطوطات المدونة بالحروف العربية بغية تعزيز أواصر العلاقات التاريخية بين العرب والأفارقة، وإحياء التراث المكتوب بهذا الحرف، وتدوين التراث الشفهي الأفريقي، عبر إصدار مجلة دورية للغات الأفريقية، تكتب بالحرف العربي، وتحقيق المخطوطات التي دونت بالحرف العربي.
ويشارك كل من مكتبة الإسكندرية، ومركز البحوث العربية والأفريقية (مؤسسة ثقافية غير حكومية)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وجهازها في القاهرة معهد المخطوطات العربية، وكذلك المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، وهيئة المخطوطات الإسلامية (منظمة غير ربحية)، والمعهد الثقافي الأفريقي العربي في باماكو بمالي، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ببريطانيا؛ بدور رئيسي في إبراز قيمة اللغات الأفريقية المكتوبة بالحرف العربي.
المرجع الأبرز
ومن أبرز المراجع التي عُنيت بهذه المخطوطات، كتاب رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية الدكتور حلمي شعراوي "تراث مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي"، والذي قدم فيه خلاصة أبحاثه عن مخطوطات اللغات الأفريقية التي دونت بالحرف العربي.
وولدت فكرة الكتاب من اكتشاف الكاتب مخطوطات أفريقية مكتوبة بالعربية، ومتنوعة بين الأدب والشعر والفقه والنثر والزراعة والتاريخ والسيرة الذاتية، وثقها خلال جهد امتد بين 2005 و2017.
وصدر الكتاب في مجلدين ليكشف عن كنوز أفريقية بلغة الضاد، حيث يضم المجلد الأول مخطوطات 8 لغات وهي: الملغاشية، والسواحيلية، والهوسا، والفولانية، والولوف، والماندينغ، والسونغاي، والتماشقية، في حين يضم المجلد الثاني مخطوطات اللغات: الأمازيغية، والسوننكية، والسيريرية، والكانورية، ولغة اليوربا، واللغة النيوبية، ولغة العفر، ولغة الأفريكانز.
وسلط الكتاب الضوء على مخطوطات اللغة الملغاشية التي سادت مدغشقر، والتي كانت تعرف باسم مالاغاش حتى فرض الفرنسيون اسم "مدغشقر" عام 1819.
ووفق الكتاب فإن الملغاشية لغة خليط من اللغات الآسيوية والأفريقية والعربية، وانتشرت كتابتها بالحرف العربي، حتى إنه يوجد 7 آلاف صفحة من المخطوطات المكتوبة بالملغاشية ذات الحرف العربي في المكتبة الأكاديمية بالنرويج، منها مخطوط تاريخي يحكي مرحلة من تاريخ مالاغاش يعود للقرن الـ19.
اللغة الثانية التي أبرزها الكتاب هي "السواحلية" نسبة للساحل الشرقي لأفريقيا، والتي تنتشر في تنزانيا وكينيا وأوغندا والصومال وجزر القمر، وغيرها.
ومن أبرز المخطوطات التي كتبت بالحرف العربي السواحيلي قصيدة "الانكشاف" التي تتضمن 79 بيتا مكتوبة بطريقة الرباعيات العربية الشهيرة، واتخذت نمط البكاء على الأطلال على تدمير الرعاة لسلطنة "باتي" الأفريقية العربية على ساحل المحيط الهندي لشرق أفريقيا.
"الهوسا" وفق الكتاب من أبرز اللغات الأفريقية كذلك التي كتبت بالحرف العربي، وهي من العائلة اللغوية التشادية، وتصدر انتشارها بالحرف العربي بين القرنين الـ12 والـ16 الميلاديين، وتتعدد مواقع مخطوطات لغة الهوسا بشكل لا يكاد يتوفر لتراث أي لغة أخرى، خاصة أن كتابتها بالحرف العربي الأساس في ثباتها حتى الآن.
وقدم الكتاب نصا شفهيا بلغة "الهوسا" تم تدوينه أوائل القرن الـ20 عن أصل شعب الهوسا، ويعد وفق مختصين نصا ذات قيمة علمية للدراسات الاجتماعية والتاريخية.
ويلفت الكتاب النظر كذلك إلى اللغة الفولانية التي تمتد من أقصى الغرب في فوتا جالون (غينيا) إلى أقصى شرق المنطقة الغربية من أفريقيا عند اشتباكها مع الوسط فى الكاميرون، أو ارتباطها بالشرق مع الفلاتة فى السودان، وتمتد من جنوب موريتانيا شمالا تحت اسم عام "التكرور" إلى نيجيريا وبنين على خليج غينيا فى المحيط الأطلنطي.
وارتبطت اللغة الفولانية مثل معظم لغات غرب أفريقيا بالسلطة السياسية، خاصة إمبراطورية الشيخ عثمان دان فوديو (1754- 1817) الداعية الديني الذي برز ضمن ما عرف بالفترة المهدوية التي امتدت على طول القرن الـ19 في أنحاء مختلفة من أفريقيا والعالم الإسلامي، ولذلك جاءت نصوصها مرتبطة أكثر بالجهاد الإسلامي ضد الاستعمار مثل قصائد "الشيخ عثمان" وتوجيهاته، والتي حملها من بعده أولاده وبناته خاصة ابنته "أسماء".
رسائل جامعية
واهتمت الأطروحات الجامعية بسبر أغوار هذا الكنز الثقافي، ومن ضمن الرسائل الأكاديمية لنيل الدكتوراه رسالة "كتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي المنمط (الفلاني-الهوسا-السواحيلية)" للباحثين قدر ماري، وبابكر حسن محمد والتي جرت مناقشتها في كلية التربية بجامعة أفريقيا العالمية بالسودان.
وتناولت الدراسة انتشار اللغة العربية والحرف العربي في أفريقيا ولغات الفلانية والهوسا والسواحلية وجهود المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في كتابة اللغات الأفريقية (الفلانية والهوسا والسواحيلية) بالحرف العربي.
وركزت الدراسة على تقويم الجهود التي بذلت لكتابة اللغات الثلاثة بالحرف العربي من حيث الرموز العربية التي اختيرت لكتابة أصوات هذه اللغات وطريقة كتابتها، وتقليل مشكلات الكتابة التي تواجه المتحدثين بلغات الفلانية والهوسا والسواحيلية ليتمكنوا من كتابة وقراءة لغاتهم، واتبعت المنهج الوصفي التحليلي والتاريخي.
وتوصلت الدراسة إلى تحديد رموز عربية لكتابة لغات الفلانية والهوسا والسواحيلية بعد تقويم جهد عدد من الباحثين، وكتابة الروابط والضمائر وحروف الجر منفصلة عن الأسماء والأفعال، مع التركيز على اللغات الكبرى في أفريقيا لكتابتها بالحرف العربي لتذوب فيها لغات الأقليات.
وعن آفاق المستقبل قامت ورقة بحثية بعنوان "اللغة العربية في خدمة شعوب غرب أفريقيا.. قضية تدوين اللغات الأفريقية بالحرف العربي أنموذجا" للباحث حنا كوكو عبد المجيد إدريس، والصادرة في عام 2012، بمعالجة بعض جوانب الأمر، مؤكدة أهمية تفعيل مشروع تدوين اللغات الأفريقية بالحرف العربي في المستقبل.
وأوضحت الدراسة أن هناك مشاريع مستقبلية واعدة خاصة في مجال إحياء التراث المكتوب بهذا الحرف، وتدوين التراث الشفهي الأفريقي.
مكتبة الإسكندرية
وتعتني مكتبة الإسكندرية الشهيرة بملف مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي عبر مركز دراسات الكتابات والخطوط ومركز المخطوطات التابعين للقطاع الأكاديمي بالمكتبة، والتي عقدت بالتعاون مع هيئة المخطوطات الإسلامية مؤتمرا افتراضيا مهما للمخطوطات الأفريقية بالحرف العربي بمقر المكتبة في سبتمبر/أيلول الماضي.
وسلط المؤتمر الضوء على ثقافات المخطوطات المدونة بالحرف العربي في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتقاليد التاريخية لهذه المخطوطات، ومكتبات المخطوطات ومراكز تراث المخطوطات في أفريقيا، وكيفية الفهرسة والتحقيق والبحث والنشر، والحفظ والصيانة والرقمنة.
مخطوط بالحرف العربي ضمن مجموعة وثائق أُنقذت من التلف في تمبكتو (أسوشيتد برس)
وفي مايو/آيار 2015، نظمت المكتبة كذلك محاضرة بعنوان "الحرف العربي في كتابات ومخطوطات اللغات الأفريقية"، تحدث فيها الأكاديمي حلمي شعراوي عن كتابه المرجع "تراث المخطوطات الأفريقية بالحرف العربي".
ونظم معرض القاهرة الدولي للكتاب في العام 2018، ندوة حملت نفس عنوان كتاب "شعراوي"، أكدت أن ثمة جهود حديثة في العالم العربي وأفريقيا لاكتشاف الأبعاد التاريخية المسجلة في التراث الشعبي الأفريقي.
وتعتبر مكتبة تمبكتو بمالي، من أهم المكتبات التي تحتوي على مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي، والتي تقدر وفق بعض التقديرات غير الرسمية بمئات الآلاف من بينها حوالي 40 ألف من المخطوط التي تم فرستها على شبكة الإنترنت مؤخرا، وبذلت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ببريطانيا، جهودا كبيرة في التحقيق والفهرسة.
وكشفت المؤسسة في مارس/آذار 2013، عن أنها نشرت حتى وقتها 16 فهرسا في 33 مجلدا تتضمن حوالي 30 ألفا و215 مخطوطة في أفريقيا، كما نظمت دورات تدريبية على الفهرسة والتحقيق، موجهة إلى العلماء الشباب، وخريجي الجامعات، والمختصين في المكتبات، القادمين من مختلف البلدان الأفريقية ممن لم يتلقوا تدريبا نوعيا في ميدان معالجة المخطوطات وتحقيقها.
عناية واجبة
ووفق مراقبين، فإن مصر والعالم العربي بحاجة للعناية بتلك المخطوطات كبداية لمشروع عربي أفريقي كبير.
ونقل بيان رسمي لمكتبة الإسكندرية تصريحا للمدير السابق لمركز دراسات الكتابات والخطوط بالمكتبة الأكاديمي عصام السعيد بأن قيمة هذه المخطوطات تكشف عن اختلاط اجتماعي وثقافي مع مركب الثقافة الأفريقية العربية في ممالك وإمبراطوريات القارة الأفريقية الواسعة، وتشهد أكثر من 20 لغة أفريقية بهذا التراث المشترك الناتج من معارف مشتركة أفريقية عربية.