قبل أيام، أصدر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" مؤشره السنوي "المؤشر العربي" الذي يقيس اتجاهات الرأي العام في العالم العربي من المحيط إلى الخليج. والمؤشر -حسب علمي- هو أضخم استطلاع للرأي يجري في العالم العربي كل عام، سواء من حيث العينة التي يجرى استطلاع آرائها، والتي تجاوزت 30 ألفا في الدورة الأخيرة للمؤشر الذي صدر قبل أيام (تحديدا 33 ألفا و300 مستجيب ومستجيبة في 14 دولة عربية)، أو من حيث المؤشرات والمتغيرات التي يتم قياسها والتي وصلت إلى نحو 472 متغيرا.
"المؤشر العربي" غني بالأرقام والمؤشرات والدلالات التي تعكس توجهات وآراء الشارع العربي، وذلك بعيدا عن البروباغندا الحكومية التي لا تعكس الواقع بأي حال. وهو في حد ذاته مادة خام غنية وجيدة للباحثين المهتمين بمعرفة آراء المواطن العربي في قضايا عديدة، بدءا من ظروفه المعيشية، مرورا بالأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية، وانتهاء بالمسائل الإقليمية والدولية.
وإذا كان من غير الممكن في هذه المساحة استعراض الأرقام والمؤشرات كافة التي وردت بالمؤشر العربي في دورته الثامنة (نتائج المؤشر كافة لهذه الدورة وتلك التي سبقتها منشورة ومتاحة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لمن يرغب في الاطلاع عليها)، إلا أنه من المهم الوقوف على بعض المؤشرات المهمة، والمقلقة، التي سيكون لها تأثير مهم على الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلدان العربية خلال العام الجاري والأعوام المقبلة.
أولا: أكثر من نصف المواطنين العرب (نحو 54%) يصفون الأوضاع الاقتصادية في بلدانهم بأنها سلبية (سيئة أو سيئة جدا)، في حين أن نحو 52% يرون أن بلدانهم تسير في الطريق الخاطئ، وذلك في الأساس نتيجة أسباب اقتصادية (نحو 40%)، حيث يعاني كثير من المواطنين العرب من ضعف الدخول ولا يستطيعون الإنفاق على احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
فعلى سبيل المثال، يرى 42% منهم أنهم غير قادرين على التوفير من دخولهم بعد تغطية احتياجاتهم الأساسية، في حين أن 28% يعيشون في حالة عوز، إذ إن دخلهم لا يغطي احتياجاتهم الأساسية. أي أن نحو 70% من المواطنين العرب يعيشون أوضاعا اقتصادية صعبة. بل الأكثر من ذلك فإن ثلثي المواطنين العرب يعيشون على الاستدانة والاقتراض سواء من الأقارب والجيران والأصدقاء والبنوك وعدد غير قليل منهم (نحو 10%) يضطرون لبيع ممتلكاتهم من أجل تغطية نفقاتهم واحتياجاتهم الأساسية.
ثانيا: نصف المواطنين العرب (49% تحديدا) يصفون الأوضاع السياسية في بلدانهم بأنها سيئة، وهي نسبة تزداد نحو 4% مقارنة بالدورة السابقة للمؤشر عام 2019-2020. يأتي لبنان في مقدمة هذه البلدان (99%)، يليه السودان (87%)، ثم تونس (86%)، والأردن (77%)، والعراق (75%)، وليبيا (63%)، ومصر (54%). وهذه أرقام مفزعة، خاصة في البلدان الكبيرة مثل مصر والعراق والسودان التي تشكل جميعا أكثر من ثلث السكان في العالم العربي. ولذلك، فليس غريبا أن أكثر من ثلثي المواطنين العرب يرغبون في الهجرة من بلدانهم (نحو 70%).
ثالثا: أكثر من نصف المواطنين العرب لا يثقون بالمؤسسات المدنية كالبرلمانات والحكومة والأجهزة المدنية، وذلك مقارنة بثقتهم في المؤسسات العسكرية والأمنية والمخابراتية. وهو مؤشر مقلق، ولكنه يعبر عن ضعف الهياكل والمؤسسات المدنية في العالم العربي. ولعل هذا يتناغم مع قناعة ما يقرب من نصف المواطنين العرب بأن مجتمعاتهم غير مهيأة للديمقراطية حاليا (نحو 47%)، وذلك رغم أن غالبيتهم (نحو 72%) يؤيدون النظام الديمقراطي باعتباره النظام الأفضل لبلدانهم. وهو ما يعني أن مسألة التغيير في العالم العربي بحاجة إلى جهد كبير من أجل تغيير الثقافة السياسية للمواطنين العرب وزيادة ثقتهم بالمؤسسات المدنية. ولعل المؤشر الجيد، في هذا الصدد، أن نصف المواطنين العرب (نحو 53%) يرفضون حكم الجيش والعسكر.
رابعا: رغم فشل الثورات العربية في تحقيق نتائج جيدة وملموسة سواء سياسية أو اقتصادية، فإن هناك تقييما إيجابيا لهذه الثورات. إذ يرى نحو 46% من المواطنين العرب أن الثورات كانت أمرا إيجابيا، مقابل نحو 39% قيموها بشكل سلبي. بل إن نحو 40% من المواطنين العرب يرون أن هذه الثورات تمر بمرحلة تعثر مؤقت، وأنها سوف تحقق أهدافها في نهاية المطاف، في حين يرى 39% تقريبا أنها انتهت وأن الأنظمة القديمة قد عادت للحكم مجددا. وهو ما يعكس الانقسام بين المواطنين العرب حول الثورات بوجه عام. ولعل المفاجئ في الأمر أن ثمة تقييما إيجابيا للثورات العربية رغم محاولات التشويه التي حدثت لها على مدار العقد الماضي من قبل الثورة المضادة والتي أنفقت مليارات الدولارات في حملات دعائية لشيطنة الثورات ومن شاركوا بها.
أخيرا، ثمة شعور متزايد بالعزوف واللامبالاة السياسية لدى المواطن العربي، وهو ما تجسده عدة مؤشرات. فعلى سبيل المثال، ما يقرب من ثلثي المواطنين العرب (64%) لا يهتمون بمتابعة الشأن السياسي في بلدانهم، وقد يكون هذا إما لفقدان الثقة بالعملية السياسية بشكل تام، وإما لانشغالهم بأوضاعهم الاقتصادية الصعبة. ومستوى ثقة المواطن العربي بالأحزاب السياسية منخفض جدا كذلك، إذ إن أكثر من ثلثي المواطنين لا ينتسبون إلى أي أحزاب سياسية ولا يوجد حزب سياسي يمثلهم.
تمثل هذه المؤشرات وغيرها دليلا واضحا على أن العالم العربي يعيش أوضاعا صعبة سياسيا اقتصاديا، وأن بقاء هذه الأوضاع على ما هي عليه ينذر بعواقب وخيمة ليس على الشعوب فحسب، بل على الحكام والمسؤولين أيضا. ولو كنت مسؤولا عربيا، لشكلت لجانا خاصة لدراسة نتائج "المؤشر العربي"، ولوجهت برسم سياسات جديدة للتعاطي مع هذه المؤشرات، وذلك قبل أن يحدث ما لا تُحمد عقباه.