كشفت وثائق مجلس الوزراء البريطاني، أن لندن كانت واثقة من عدم صحة مزاعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل قبل غزوه بعامين على الأقل.
وأثبتت الوثائق التي أفرج عنها، علم رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، توني بلير، بخلو العراق من أي قدرات لامتلاك أسلحة محظورة وفقا لقرارات الأمم المتحدة الصادرة قبل وبعد إخراج الجيش العراقي من الكويت عام 1991.
وقررت الولايات المتحدة وبريطانيا غزو العراق في 19 آذار/ مارس عام 2003، بزعم أن صدام كان يخفي أسلحة دمار شامل، ما يجعل نظامه تهديدا للسلم في الشرق الأوسط والعالم.
وفي ما يأتي النص الكامل للوثائق الرسمية البريطانية التي نشرتها "بي بي سي":
وأكدت الوثائق البريطانية، أن سياسة الاحتواء والعقوبات الدولية الصارمة التي فرضت على العراق بعد تحرير الكويت من احتلال جيشه عام 1991، قد حققت هدفها في منع صدام من القدرة على تطوير أسلحة غير مسموح بها.
وأظهرت الوثائق اعتراف الحكومة البريطانية عام 2001، بفعالية العقوبات العسكرية والتسليحية والتكنولوجية في سياق مراجعة أجرتها إدارة بلير للسياسة الأمريكية البريطانية بشأن العراق.
لكن بريطانيا عرضت على أركان إدارة بوشبعد انتخابه سياسة جديدة أسمتها "عقد مع الشعب العراقي" تستهدف استعادة المساندة، خاصة من دول وشعوب المنطقة العربية، للسياسة الأمريكية البريطانية في التعامل مع العراق.
واستندت مراجعة السياسة تجاه العراق على تقارير الأجهزة الاستخبارية والدبلوماسية والعسكرية، وفريق تقدير المواقف في مجلس الوزراء البريطاني.
وخلصت المراجعة إلى أن حظر الأمم المتحدة على تصنيع العراق صواريخ لا يتجاوز مداها الـ150 كليومترا "هو قيد رئيسي يمنعه من تطوير صاروخ كهذا".
وأقر البريطانيون، حينها، بقلقهم من تأثير تراجع المساندة الشعبية والرسمية العربية لطريقة تعامل واشنطن ولندن مع العراق.
واقترحوا على الأمريكيين أن يتضمن "العقد مع الشعب العراقي" ما وصفوه بـ"خطوط السياسة المستقبلية" تجاه العراق، تقوم على أهداف أهمها "احتواء النظام العراقي، ومنعه من تطوير أسلحة دمار شامل".
ويستدعي هذا، وفق التصور البريطاني "إعادة بناء إجماع دولي على هذه الأهداف وإعادة توجيه تركيز الاهتمام العالمي على وقف برنامج العراق الصاروخي".
مليارات العراق
وبحسب الوثائق فإن إدارة بلير سعت إلى التواصل الفعال مع الفرنسيين لإقناعهم بأن "يُضَمِّنوا عناصر العقد مع الشعب العراقي في أي بيانات تصدر للترويج لنهجنا الجديد في الأمم المتحدة".
واقترحت المراجعة أنه "ربما نطلع دولا عربية رئيسية مثل مصر والسعودية والكويت على النهج الجديد كي تصدر بيانات مساندة".
وشملت المقترحات البريطانية "استراتيجية إعلامية" لحشد التأييد، بعدما تصاعد الغضب الشعبي العربي والعالمي بسبب التقارير التي كشفت معاناة الشعب العراقي من العقوبات الدولية القاسية.
وكان هدف الاستراتيجية الرئيسي هو كشف ما رأته "استغلالا" من جانب نظام صدام لمنظومة العقوبات لحشد تأييد العراقيين والشعوب العربية له في الصراع.
وفي 19 أبريل/ نيسان عام 2001، أرسل مكتب بلير رسالة، موقعة باسم جون سوريز، سكرتيره الشخصي، إلى الأمريكيين، تتضمن التصور البريطاني، بعد مناقشات أولية سابقة معهم بشأنه.
وجرت النقاشات مع الأمريكيين تنفيذا لنتائج لقاءات بلير مع بوش، ونائبه ديك تشيني، ووزير خارجيته كولين باول في واشنطن.
وتكشف محاضر اللقاءات أن تشيني كان المسؤول الأول عن الملف العراقي، حتى إن بوش وباول أبلغا بلير باتفاقهما مع كل ما يقوله نائب الرئيس.
وخلال لقاء بلير وتشيني، طرح الأول فكرة إجراء المراجعة و"إعادة تحديد بؤرة تركيز جهدنا"، مفاخرا بأن العراق "نموذج للتعاون" بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
ونقل سوريز، الذي أصبح لاحقا رئيسا لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني إم آي 6، عن تشيني "مشاركته الهواجس نفسها" بشأن العراق.
واعترف نائب الرئيس الأمريكي للبريطانيين بأن هناك "تآكلا واضحا في تأييد العالم العربي لسياستنا".
وعبر عن القلق من أن "دول الخليج مثل السعودية تضع قيودا إضافية على استخدام القواعد"، التي تنطلق منها الأنشطة العسكرية والاستخبارية ضد العراق.
في هذا السياق، كشف تشيني عن بعض ما كان يدور بينه وبين القادة العرب عندما كان وزيرا للدفاع في عهد جورج بوش الأب، والمسؤول الأول عن حرب عاصفة الصحراء التي حررت الكويت من الاحتلال العراقي، وفُرضت بعدها العقوبات الدولية على العراق.
ويقول سويرز، في محاضر المباحثات، إن تشيني أبلغ بلير بأنه "اكتشف أيضا من زياراته السنوية للخليج اهتماما متزايدا بقضايا المنطقة الأوسع، مثل عملية السلام في الشرق الأوسط". وقال: "هم (القادة العرب) الآن يربطون بين عملية السلام وعلاقتهم بالولايات المتحدة. واتهموا أمريكا باتباع معيار مزدوج بين العراق وإسرائيل".
واعترف تشيني أيضا بأن "المشكلات في عملية السلام في الشرق الأوسط تجعل من الصعب على الولايات المتحدة تنفيذ سياستها بشأن العراق".
ومع تركيز الإعلام الإقليمي والدولي على معاناة العراق من العقوبات، فقد واجه التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتقادات حادة لسياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع العراق، وإسرائيل، التي تحتل أراضي في فلسطين وسوريا ولبنان.
وطلب تشيني "بإعادة تحديد أهداف العقوبات" على العراق. وقال إنه "ليس متأكدا حتى من فعالية العقوبات العسكرية القائمة".
"ذاكرة قصيرة"
ولم يعترض نائب الرئيس الأمريكي على فكرة "إعطاء مجال أكبر (في التفكير) في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي" في العقوبات، ولكن "مع الإبقاء على القيد على الأسلحة والتكنولوجيا" مع "بغضه لفكرة التخلي عن السيطرة على عوائد النفط العراقي".
وهنا تدخل بلير مرة أخرى كي "يحث على ضرورة إعادة شرح قضية العراق" للرأي العام، قائلا إن "الناس لديهم ذاكرة قصيرة العمر وتحتاج إلى تذكير بالتهديدات التي يشكلها صدام". وقد وافق تشيني "بقوة".
وأصر على أنه "إذا حدث بعض التخفيف من العقوبات الاقتصادية، فإنه ينبغي أن تحتفظ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالقدرة على الرد بشكل صارم لو تجاوز صدام أيا من خطوطنا الحمر بشأن أسلحة الدمار الشامل أو الصواريخ".
وعاد تشيني ليعبر عن امتعاضه من أن "عدم إتاحة القواعد العسكرية في المنطقة حَدًّ من نطاق الخيارات".
ونبه البريطانيين إلى مخاوف سعودية أخرى، من توابع عدم التصرف بحسم مع صدام.
وقال نائب الرئيس الأمريكي إن السعوديين "لم يريدوا أي هجمات أشبه برمي الطوب (غير مؤثرة) على صدام. فإن كان لا بد من ضربه، فإنه يجب أن يضرب عندئذ بقوة".
وبحسب محضر اللقاء، فإن سوريز علق قائلا: "كل هذا يشير إلى الحاجة إلى إعادة بناء الإجماع السياسي بشأن العراق. ويجب أن نعمل في مجلس الأمن، (لأن) اتفاقا بالمجلس سوف يوفر أساسا لمساندة من الدول في المنطقة".
وتناولت المباحثات موقفي الأردن وسوريا، جاري العراق، من العقوبات.
وبينما اعتبر تشيني الأردن "متعاونا في العموم"، فإنه رأى أنه "لا يمكن الاعتماد عليه في ما يتعلق بالعراق"، لأنه "لن يكون على الإطلاق مساعدا جدا". ولم يعلق بلير.
وعن سوريا بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، رأى بلير أنه "من المهم أن تُعطى رسالة قوية في ما يتعلق بخرق حظر النفط". وعلق تشيني معبرا عن اعتقاده بأنه "يجب أن يكون الهدف هو وضع صادرات النفط العراقية إلى سوريا تحت سلطة برنامج النفط مقابل الغذاء".
وفي ختام تقرير بشأن سير المباحثات، علق سوريز قائلا: "طوال هذا النقاش، أظهر تشيني أنه منتبه إلى المخاوف العربية وأنه على اتصال جيد بالاتجاهات السائدة في العالم العربي".
ولم تُعط المراجعة البريطانية فرصة للتطبيق.