المر كز الموريتاني لقياس الرأي العام ( نواكشوط ) : عادت بسمة خليفة، 29 عاما، إلى مسقط رأسها لترى إن كانت تستطيع العيش هناك، بيد أن خطوة خاطئة واحدة تعني أنها لن تكون قادرة أبدا على العودة إلى هناك.
________________________________________________________
في أكتوبر/تشرين الأول 2018، طُلب مني مغادرة المملكة العربية السعودية: البلاد التي ولدت فيها والمكان الذي كنت أعتقد أنني قد أكون قادرة على بناء حياة جديدة فيه. لقد استرق البعض السمع إلى وأنا أناقش مقالا عن الناشطات النسويات اللائي اعتقلن في السعودية بينما كنت أصور فيلما وثائقيا لبي بي سي عن محاولتي اكتشاف إن كنت استطيع الاستقرار هناك.
كان علي مغادرة البلاد فورا وأبلغت أن سلوكي، على ما يبدو، "مُنتقد للمملكة".
في هذه اللحظة، كان الشيء الوحيد الذي شعرت به هو الصدمة. كل ما فعلته قراءة مقال - في الغالب، شعرت أنني تعرضت لتوبيخ وطلب مني عدم الحديث باي شيء إضافي عن الناشطات اللائي ينشطن في حملة منح المرأة حق قيادة السيارات.
ثم بدأ القلق والخوف. بدأت أشك في نفسي، ربما أكون فعلت شيئا فظيعا حقا! جرى كل شيء بسرعة ولم يكن لدي وقت للتفكير.
فكرت لو أنني جرؤت على البقاء، قد يلغون تأشيرة دخولي إلى البلاد، فحجزت رحلة طائرة إلى مطار هيثرو (في لندن) ووصلت إلى بلادي في اليوم نفسه.
قد مضت 25 سنة على الفترة التي عشت فيها طفلة في السعودية، وعندما عدت إليها العام الماضي، اندهشت كيف بُنيت: بشواطئ ومراكز تسوق (مولات) ومطاعم راقية. وخلال الأيام الستة التي عشتها في البلاد أمطرت بغزارة، وهو حدث نادر جدا دفعنا للتندر بأنني جلبت معي مطر لندن.
بسمة عندما كانت طفلة مع والديها
إن ذكرياتي المبكرة عن المملكة ضبابية. فقد ولدت هناك في عام 1989، وعشت في العاصمة، الرياض، مع والدي السودانيين. كانا التقيا في الجامعة في مصر ثم انتقلا إلى السعودية عندما منح والدي، الطبيب، عرضا للعمل هناك.
بعد سنوات قليلة، حصل والدي على موقع عمل جديد، هذه المرة في إيرلندا الشمالية، فانتقلنا ثانية وكان عمري ثلاث سنوات.
لم تكن تلك نهاية رحلاتي، فقد بقينا في إيرلندا الشمالية حتى بلغت سن 13 فانتقلنا إلى اسكتلندا حيث عشت حتى بلوغي العشرين. ذهبت بعدها إلى نيويورك لمدة ستة أشهر للعمل في العلاقات العامة في مجال الأزياء، وبلغت 21 من العمر فعدت ثانية إلى لندن للعمل كمصممة أزياء.
عندما تتنقل كثيرا، لا تمتلك إحساسا مجسدا أين يكون موطنك. وهذا قد يكون نعمة أو نقمة، إذ يمكنك أن تجعل أي مكان موطنا لك، أو قد لا تشعر بالوطن في أي مكان. وأنا أقرب إلى الشعور الأول، كل هذه التنقلات جعلتني أكثر مرونة على تقبل الناس الجُدد والأوضاع الجديدة. ولدي الآن أصدقاء في جميع أنحاء العالم.
استمتاعي بالاتصال بالناس ألهمني البدء في مدونة مقابلات فيديو مع النساء الملونات للحديث عن تجاربهن في العمل في صناعة الأزياء. وخلال هذا الوقت، كنت أسائل نفسي- محاولة باستمرار أن أجد أين سيكون المكان المناسب لي ومن أين نبعت هويتي. وعند العمل في الأزياء تُفكر كثيرا في كيفية تمثيل نفسك ومن أنت؟
وبوصفي امرأة سودانية عاشت في الشرق الأوسط والغرب، لم أكن متأكدة من المكان الذي أعود إليه. لقد دفعني الانتقال إلى لندن، حيث أُحطت بالعديد من الناس الذين لديهم هويات قوية ويفخرون بالأمكنة التي جاءوا منها، إلى الرغبة في فهم نفسي أكثر.
لقد أدركت أنني إذا أردت تحديد من أنا حقا، علي الرجوع إلى البداية والعودة إلى السعودية، البلاد التي مازلت لي ثلاث من عماتي فيها. ثمة كمية هائلة من الكتابات الصحفية السلبية عن البلاد، لكنني لن أعرف حقيقتها ما لم أذهب إلى هناك بنفسي.
أردت أن أصهر هذه الرحلة مع جانب آخر من تقديم هويتي. ففي المدرسة في اسكتلندا، كتب أصدقائي عني أنني "أقرب لأن أكون مقدمة لبرنامج بلو بيتر" فمنذ صغري كنت اسأل أسئلة باستمرار.
بسمة تصل إلى جدة
وفي عمر 27 عاما، أعددت عرضا يتضمن مقاطع من مدونتي الفيديوية عن الأزياء، وراسلت شركات إنتاج طالبة دعمهم لعمل فيلم وثائقي عن عودتي إلى المملكة السعودية. ولحسن الحظ ردت واحدة من الشركات بالايجاب، وبعد سنتين من التخطيط بتنا المخرجة جيس وأنا جاهزتين للذهاب.
لم أكن أبدا اعتزم الذهاب إلى الشرق الأوسط لفعل أي شيء ينطوي على مخاطرة. كان هدفي رؤية هل أستطيع العيش في السعودية كامرأة شابة تحمل قيما خليطة من الثقافتين الغربية والعربية. أردت أن أفعل أشياء يومية، من أمثال الذهاب لشراء الطعام ولقاء الأصدقاء.
اليوم، بعد أن رفعت السعودية الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات، أردت أن أجلس وراء عجلة القيادة واستفيد من تلك الحرية الجديدة.
بالطبع، أعرف أن الاشياء تتم بشكل مختلف هناك. فللنساء حقوق أقل، على سبيل المثال، لا يمكن للنساء مغادرة البلاد من دون موافقة الرجل (ولي الأمر)، ولايمكن لهن امتلاك حساب مصرفي من دون موافقة، فضلا عن جلوسهن في مناطق منفصلة بعيدا عن الرجال في المطاعم.
وعلى الرغم من هذه القيود، فإن البلاد تتغير. يمكن للنساء الآن التجول من دون وضع النقاب، ويمكنهن أن يعشن حياة أجتماعية بحرية أكبر وأن تكون لديهن حياتهن المهنية، بيد أن المملكة مازالت تحتفظ بقبضة مشددة على رعاياها وتسارع للقضاء على أي معارضة.
وقبل مغادرتي بريطانيا في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، كان لدي بعض الأفكار عن كيفية معاملة السعودية لخصومها. ففي الثاني من الشهر نفسه، انتشر خبر جمال خاشقجي، الصحفي والمنشق السعودي، الذي اختفى في القنصلية السعودية في اسطنبول، وتوضح لاحقا أنه قد قتل.
وعلى الرغم من رعب هذا القضية، لم أكن خائفة. لم أذهب إلى السعودية كصحفية، كنت صانعة أفلام ذاهبة لزيارة عائلتي. على الرغم من أنني عندما هبطت في مدينة جدة لبدء زيارتي للمملكة لمدة اسبوعين، فكرت مع نفسي : "ماذا فعلت؟" ولكن حالما التقيت بعماتي الثلاث شعرت بالأمان.
Image captionدعيت بسمة إلى حفلة
كانت عمتي الكبرى تعيش في السعودية منذ 25 عاما و لا تريد العيش في أي مكان أخر. هي لا تحمل الجنسية السعودية، بيد أن لها حياتها المهنية الناجحة في مجال التعليم، ولم يعق السعوديون أبدا نجاحها هذا. وقد ساعدتني على التفكير في أنني أيضا استطيع العيش هناك.
ولم تكن عماتي الشخصيات الوحيدات اللواتي قضينا أيامنا معهن، لقد كلف مسؤولون سعوديون مرافقا حكوميا بمتابعتنا للتأكد من أننا تلتزم بالأعراف المحلية. وكان لدينا أيضا فريق إنتاج سعودي، مؤلف من سائق ومساعد مصور واثنين من مساعدي الإنتاج.
وعلى الرغم من أن المرافق كان أقل رقابة لنا مما كنت أعتقد، إلا أن مجرد وجوده قربنا كان تطفلا بالتأكيد.
وتدخل فريق الإنتاج أيضا لتعديل سلوكنا، فطلبوا من جيس ومني ارتداء العباءة احتشاما، كما وبخوني لرقصي على صوت الموسيقى خارج السيارة لأن الرقص في مكان عام غير مسموح. وبمعزل عن المرافق، خبرنا الحياة السعودية العادية في التسوق في المولات (مراكز التسوق) ولقاء الأصدقاء وقضاء الوقت مع العائلة.
دُعينا في إحدى الأماسي إلى حفلة من صديق لأحد أصدقائنا، وقد طلبنا سيارة أجرة بمعزل عن الفريق الذي معنا وذهبنا إلى هناك. لقد كانت ألطف من بعض الحفلات التي حضرتها في لندن، بيد أن النساء بقين محتفظات بمكياجهن وزينتهن ومرتديات ملابسهن الجميلة و كانت ثمة موسيقى وقد رقص الجميع. بيد أن الاختلافات كانت في أن النساء يرتدين ملابس أكثر احتشاما والناس يتصرفون بطريقة محافظة أكثر ولم تكن هناك مشروبات كحولية.
فالسعودية بلد جاف، حيث يمكن أن يعاقب المرء لشرب المشروبات الكحولية، التي يُحرمها الدين الإسلامي، بالسجن. أنا لا أشرب الكحول بيد أنه على الرغم من ذلك كان من الممكن أن يكون شرائي لمشروب كحولي خلال رحلتي أمرا صعبا وخطرا.
بعد أيام قليلة من الحفلة، سألت مرافقي هل استطيع قيادة سيارة- وهو أمر كنت احتاجه إذا اردت التنقل في البلاد. ففي يونيو/حزيران من العام الماضي، وفي أعقاب سنوات من حملة ناشطين حقوقيين، قررت المملكة السماح للناس بقيادة السيارات لأول مرة في تاريخها. كانت هذه الخطوة جزءا من مرحلة أوسع من التغيرات الاجتماعية التي شهدت أيضا افتتاح البلاد لأولى صالات السينما فيها.
كنت قد حصلت مؤخرا على إجازة قيادة السيارات في بريطانيا ومتلهفة لممارسة حرية حُرمت المرأة منها لوقت طويل، بيد أن ذلك جاء عندما اتخذت الأمور مسارا غير متوقعا نحو الأسوأ.
وبينما كان مرافقنا يطلب لنا سلك توصيل من سيارة أخرى كي أتمكن من ربط تلفوني والاستماع إلى الموسيقى عبر سماعات السيارة، بدأت في قراءة مقال بصوت عال عن ناشطات حقوقيات سعوديات اعتقلن في الوقت نفسه تقريبا الذي رفع فيه الحظر على قيادة المرأة للسيارات،. لقد أردت معرفة هل إنهن ما زلن في السجن، وكما توقعت، لقد بقين وراء القضبان.
Image captionسمح للنساء في السعودية بقيادة السيارات
لم اتفاجأ بشكل خاص، فأنا أعرف أن محاربة النظام في السعودية قد تقودك إلى السجن، بيد أن أحد أفراد طاقم الإنتاج السعودي الذي سمعني انتابه الغضب، ليس بشأن القصة لكنه شعر أنني كنت انتقد المملكة ولا احتفي بشجاعة النساء كما كنت أشير.
وقبل أن أعرف بذلك، أُجريت اتصالات هاتفية برؤساء الفريق وبطاقمنا الانتاجي في بريطانيا. لقد شعرت بالصدمة والخوف، لم أكن أنوي إيذاء مشاعر أي شخص أو إحباطه. كل ما فعلته قراءة مقال. ولم يشر لي أي بحث في العالم بأن ذلك يُعد إهانة في المملكة.
اتصل بي محررنا المسؤول في بريطانيا لإبلاغي بأن علي أن أغادر السعودية فورا. لم يكن قد مضى علي هناك سوى ستة أيام ولدي الكثير من العمل المخطط له، كان علي الذهاب إلى نادي مختلط لممارسة رياضة الجري، واللقاء بنساء رائدات في مجال الأعمال، ولكن الآن يجب علي حزم أمتعتي والرحيل...
لم أكن اعتقد أنني ساعتقل- بالتأكيد لن أكون في مثل هذا الوضع لمجرد قراءة مقال- بيد أنني لم أشأ المجازفة، خصوصا أنني هناك بموجب تأشيرة دخول يمكن أن تلغى بسهولة. ودعت عماتي والدموع تغمر عيني وتوجهت إلى المطار متلهفة للخروج من تلك البلاد.
وعندما هبطت في مطار هيثرو، شعرت أنني استطيع التنفس وأنني بت خارج سيطرة المملكة. لم أشعر أبدا بمثل هذه السعادة لكوني بريطانية ولا أرى أنني قد أعيش في مكان ما يتمتع بحرية تعبير أكبر، ولن استبدل ذلك أبدا.
Image captionنصحت بسمة بالتوقف عن تصوير فيلمها ومغادرة السعودية
ومنذ مغادرة السعودية، لم أسمع أي شيء من أي مسؤول، اعتقد أنه ما أن يخرج فيلمي الوثائقي للنور، فليس من المرجح أن يُسمح لي بالعودة إلى المملكة، وهذا خيار اتخذته بكامل إرادتي.
لا اعتقد أنني كنت ساذجة في التفكير في أنني يمكن أن أعيش في السعودية، لكنني الآن أعلم أنها لا يمكن أن تكون موطني. ذهبت لعيش حياتي بشروطي الخاصة، ولا اعتقد أنني استطيع فعل ذلك هناك، لأنني امرأة على وجه الخصوص. فالنساء السعوديات اللواتي التقيتهن لايشعرن بصعوبة فعل ذلك، لكن لا يمكنك إغفال ما لا تعرفه. اعتقد أن هناك ما هو أكثر يستحقنَّ الحصول عليه: كالتساوي في الحقوق والمزيد من الحرية والمزيد من الثقة من حكومتهن.
وعلى الرغم من تجربتي في السعودية، ما زلت آملة بمستقبلها. ففي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، أقام المغني الأمريكي جيسون ديرولو حفلا في الهواء الطلق في المملكة حضره رجال ونساء معا. وقاد بعض النساء السيارات بأنفسهن للوصول إلى هناك. ولم يكن ممكنا التفكير بمثل هذه الأمسية قبل سنوات قليلة، لكنها الآن باتت شيئا عاديا.
تحدث هناك الكثير من الأشياء الإيجابية التي تشير إلى أن تغييرا حقيقيا سيأتي. لكنني لا أعرف إن كان سيُسمح لي بأن أشهده.
هذه التفاصيل كما روتها ميرين جيدا في برنامج "داخل السعودية الحقيقية: لماذا اضطررت إلى المغادرة؟ ويمكن مشاهدته على بي بي سي 3 آيبلاير