تابعت اليوم برنامجا بثته قناة "العربي"، تمحور حول الانقلابات وحكم العسكر في موريتانيا، استضاف شخصيات موريتانية، تفاوتت في الموضوعية والقدرة على تحليل الواقع، لأسباب جلية ومفهومة للمتابع المحلي للشأن العام.. برنامج سعى إلى تقييم "حكم العسكر" في موريتانيا واستشراف مستقبله في البلد. مواضيع كثيرة أثارها البرنامج، لكنها بقيت مجرد إثارات، دون أن تشرح الواقع أو تقدم له الحلول، لذا صار لزاما على المهتمين بالشأن المحلي أن يقوموا بجمع شتات الصورة التي قدمها هذا البرنامج مجتزأة وغير مكتملة- لأسباب قد تكون منطقية-، من أجل إنارة الرأي العام أولا، وتقديم صورة، تكون عونا للراغبين في الإصلاح والتغيير ثانيا.
في البداية لا بد من تقديم مجموعة من الملاحظات، أراها أساسية، وهي:
* أننا في بلد ليست له ثوابت، حصل حولها إجماع وطني، تترنح سفينته في كل اتجاه، يستهلك ولا ينتج، بدءا من حبة البصل وعلبة الوقود وانتهاء بالمنتوج الثقافي المعاصر، استمرأ التبعية العمياء لمستعمر الأمس، وقبل بالدونية في هويته والدنية في ثرواته الوطنية، كل شخص فيه مظلوم في صفة ظالم..يعيش رحلة سيزيفية، ويتحرك ضمن زمن دائري، يكرر التجارب الفاشلة ألف مرة، يحتقر الخبرة ويهلل للشطارة المدمرة للصالح العام.. لم يختر فيه الشعب حكامه منذ نشأة الدولة الموريتانية، يعيش طرفي المعادلة فيه(الأنظمة والشعب) لعبة الكذب المتبادل(التصفيق مقابل وهم الانجازات الجبارة!)، وهو ما أنتج نخبة بلا دسم وأنظمة بلا مشروعية.
* أن الدولة الموريتانية تحولت طيلة أربعة عقود من تاريخها (60 سنة) إلى حقل تجارب، يعبث بها غير المؤهلين، المتسلقين، الانتهازيين والطفيليين، دون رادع أو حساب. . وهو ما رسخ الرداءة واللامعيار، بل اللامعقول في كافة نواحي الحياة العامة.
* أن البلاد اليوم وصلت إلى طريق مسدود في كافة المجالات، ومتوقفة عند نقطة لا يمكن تجاوزها إلا بالإصلاح الجدي الشامل، المبني على التحديث والكفاءة والخبرة والنزاهة والصرامة(القوي الأمين)، وخلق قطيعة شاملة مع ممارسات الماضي المتخلفة والمدمرة.
* وطن بحاجة إلى تشريح واقعه بموضوعية من قبل خبراء حقيقيين وليسوا مزيفين، بعيدا عن الشعبوية وضجيج أبواق الإعلام المدجن.
* الاستعانة بالتجارب الناهضة، والمنطلقة من خيار وطني خالص، بعيدا عن التبعية والخنوع المذل لمستعمر الأمس.
* بلد أحوج ما يكون إلى تحويل التعيين في المناصب العليا والمتوسطة فيه إلى تكليف ومهمة للإنجاز، وليس تشريفا وامتيازا مستحقا، أملته صلة قرابة أو مصاهرة أو لشراء ولاء قبلي - شرائحي- أو محاصصة عرقية وجهوية.. تنتهي مهمة مسؤوليه بتقييم موضوعي لأدائهم، قد يعلي من شأنهم أو يرديهم في حضيض، يبعدهم مستقبلا عن تصدر أي مرفق عمومي.
* انعدام خيارات موضوعية للتنمية، تلائم بين الموارد والأولويات، لذا أصبح بلدنا بحاجة ماسة إلى مشاريع مبنية على قاعدة علمية تخدم الصالح العام، خاضعة لمبدأ الجودة ومطابقة المعايير المطلوبة، وليست كما هي الان.. مكرسة أساسا لإرضاء أصحاب النفوذ وسلعة للإرتشاء السياسي... ينضاف إلى ذلك تاريخ طويل من التسيير المتذبذب غير الخاضع لأي معيار موضوعي.. رسخ الرداءة في النماذج والخيارات، وهمش الكفاءات(العملة الرديئة تطرد الجيدة).. الشيء الذي عرى ظهر الوطن وجعله عرضة للإختراقات متعددة الأوجه، بفعل غياب المشاريع الوطنية وتعميق الهشاشة فيه، في ظل فقر مدقع، أضحى سمة للبلد وأهله.
* سلط تقتات على خلق الصراعات بين النخب وشرائح المجتمع، تعمق الشرخ وتصيب اللحمة الداخلية في مقتل،دون وعي بالتهديد الجدي الآتي من الجوار وأزماته الطاحنة.. تؤجل معضلات البلد، بوصفها كرة لهب حارقة، ينبغي القذف بها إلى الأجيال اللاحقة.. وهو ما سيزيد من تعقيدها، ويضاعف من مخاطرها وتداعياتها المكلفة، والتي قد يكون أهونها ما نعيشه اليوم من تلقف الانتهازيين، المتعطشين لحمل أي قميص لعثمان أو ل"جلو"، بغية الإرتزاق به في سوق المزايدات الحقوقية والعرقية والإنسانية.
* الحاجة الماسة لخلق قطيعة جدية مع القرارات الفردية، وضرورة إبدالها بهيئات، تتكون من عناصر ذات خبرة حقيقية، مطعمة بكفاءات خارجية موثوقة.. إلى أن تستوطن الخبرات في البلد وتتمتع نخبنا بالكفاءات المطلوبة.. تتولى هذه الهيآت التنظير وتضع الخطط الأساسية، بحيث تكون موجها أساسيا للخطوات التفصيلية في كافة المجالات.
* بلد يتجاهل المسؤولون فيه حقيقة أنه لم يعد هناك أي عاقل في هذا البلد، يثق بأي شيء مما يقال أو يفعل.. فمرحلة "هذ كالت الإذاعة" انتهت منذ عهد بعيد، بفعل انتشار الوعي وتعدد مصادر الخبر وتضارب الصيغ الدعائية التي عرت جميع الأنظمة، وكشفت عورات أبواق الدعاية الإعلامية الرخيصة(كل ما جاء نظام لعن سابقه، رغم التطابق أحيانا في الأداء والأدوات والأسلوب)
* أن فداحة تركة النظام السابق غير مسبوقة.. فقد ترك لنا بلدا محطما وشعبا منهكا بالأزمات الإجتماعية والاقتصادية والسياسية، تآكلت لحمته الوطنية، وغطت مظاهر ما قبل الدولة مرافقه العمومية، وتحولت السلطة فيه إلى شاهد زور.. نظام انزاح رأسه جزئيا وبقيت أدواته وسدنته يتصدران المشهد العام.
* أن موريتانيا اليوم مغايرة كليا لموريتانيا الأمس.. فقد تضاعفت أمامها المعضلات الوجودية والتحديات المتراكمة، وغابت فيها الثقة في الحاضر والمستقبل.
* تآكل شامل، نخر المجتمع والدولة، يرجعه كثيرون إلى مرحلة حلت فيها الدبابة والمدفع والبيان رقم واحد، محل صندوق الاقتراع والمرجعية الشعبية، الشيء الذي أوجد قناعة مترسخة لدى النخب الوطنية، مفادها: أنه لا خلاص للبلد بدون تفريغ المؤسسة العسكرية نهائيا لمهامها، التي من أجلها أنشئت، ولصالحا سلحت.
* حتمية التغيير الشامل، بعد فترة طويلة من التأجيل وتقليد النعامة في أسلوبها.. وضرورة تحمل المسؤولية اتجاه وطن مقبل على مرحلة يسهل فيها تحلله والتهامه من طرف حيتان تتربص به.
هل لدينا الآن القدرة على إحداث التغيير المنشود؟
يقول الكاتب الفرنسي الشهير: فيكتور هيغو: إنه "لا توجد قوة على الأرض قادرة على أن توقف فكرة حان وقتها"، كما يؤكد الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل، أن هناك محطات وجدت خلالها أنظمة موريتانية نفسها مهددة تهديدا جديا، لم ينقذها منها، سوى قرارات فجائية غيرت كل شيء بالبلد ووفرت أمانا للنظام وساعدت في استقرار البلد.
- أولاها- قرار الرئيس المختار ولد داداه تأميم "ميفرما".. قرار قال إنه أنقذ النظام وهز مشاعر المواطن وغير المواقف جذريا اتجاه النظام ومد البلد بفسحة من الاستقرار.
- ثانيها- عند ما وجد الرئيس معاوية نفسه بعد حرب العراق محاصرا خارجيا، يواجه تحديات خطيرة داخليا، لجأ إلى قرار الانفتاح السياسي وإعلان الديمقراطية، وهو ما قلب المعادلة خارجيا وغير خريطة الولاءات جذريا.. الشيء الذي أمد في عمر النظام ووفر للبلاد فرصة للاستقرار.
- أما القرار المماثل، والذي سيعطي نفس المفعول اليوم، فيرى أنه: التغيير الجذري، الذي يشمل المجتمع المدمر والدولة المترنحة، بفعل انهيار المجتمع تحت ضربات الأنظمة المتعاقبة المسلطة على جميع عناصر القوة فيه، اعتقادا منها أنه يمثل تهديدا لها، الشيء الذي دمر المجتمع أولا ثم أجهز على الدولة لاحقا.
واقع يعكسه الجدل، الذي فجرته محاكمة قائد العشرية وبعض رموز نظامه، غذى فضول أطراف خارجية، ودفعها إلى تقييم "حكم العسكر" ومسلسل انقلاباته، وآفاقه المستقبلية- في ظل إفرازات محلية، أذكت جروحا وندوبا مرتبطة بجدوائية حكم العسكر أصلا، وأحيت مرارات الانقضاض على أول تجربة ديمقراطية، تسبب في إجهاض محطة كانت قد تقود إلى الإصلاح، الشيء الذي حرم البلاد من تجاوز كبوة النشأة، وقذف بها داخل نفق من الفساد والتخلف، عمق جميع مظاهر ما قبل الدولة وأصاب اللحمة الوطنية في مقتل..
لذا أصبح نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، أمام خيارين أحلاهما أمر من الآخر بالنسبة له:
- إما أن يساير التطلع إلى التغيير المطلوب بقوة، ويتصرف كرئيس دولة منتخب، يواجه رأيا عاما غاضبا ومتوثبا، يريد إنفاذ القانون وضرب الفساد بيد من حديد.. رئيس تملي عليه مسؤوليته الوطنية، حماية ثروات البلد وصيانة مصالحه وضمان السكينة العامة فيه.. وهنا سيتهمه ولد عبد العزيز بالغدر وعدم الوفاء لرفيق درب، يرى أنه هو من أوصله إلى كرسي الحكم، وكان يرى فيه هو والماة 93 من الدستور سياجا موثوقا، سيحميه من الملاحقة بعد مغادرته للسلطة.
- وإما أن يساير رغبات قائد العشرية ويعمل من أجل تخفيف الأحكام التي قد تدينه ويجنبه السجن ونزع المدخرات.. وعندها سيخسر شعبه، وقد يتحول إلى كبش فداء لعزيز وعشريته، وسينظر إليه بوصفه مجرد سادن لمرحلة، يمقتها الموريتانيون في الحضر والريف، دون أن يكسب ود صديق الأمس، لأنه في النهاية، جرجره أمام القضاء وسمح بتقديم الأدلة الصارخة المؤكدة لصدق كل ما كان يثار حوله.
ولعل مقولة أبو مسلم الخراساني، هي اليوم أفضل درس، يجب أن يستفيد منه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.. فعند ما سئل أبو مسلم هذا عن سبب سقوط دولة بني أمية، أجاب: "لأنهم قربوا أعداءهم وأبعدوا أصدقاءهم، فتحول الأصدقاء إلى أعداء".
تذبذب غطى بظلاله المشهد العام، وأضفى عليه ضبابية، قد يستفيد منها قائد العشرية، لكن المتضرر الأول هو الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي اندفع الجميع إلى "جنته"، هروبا من "نار" عزيز، لكن الضبابية الحالية، شديدة العتمة، قد تحول "جنة" غزواني إلى نار، وقد تنسي البعض مآسي عزيز، لذا ليس أمام النظام الحالي، سوى الذهاب بعيدا في الإصلاح لتستمر مسيرته، وتتعز صورته، كلما ذهب بعيدا في الإصلاح وابتعد أكثر عن الأساليب الممجوجة، المدمرة والمكلفة .
خياران، لا يمكن الجمع بينهما ضمن سياق واحد، فإما خيار التغيير الشامل، أو المجهول، الذي قد يجعل النظام الحالي أبرز الخاسرين، وفي مقدة المتضررين.