حديث: أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي
3799 - (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو عَلِيٍّ) السُّكري المروزي الصَّائغ _ بالغين المعجمة _ كان أحد الحفَّاظ، روى عنه مسلم أيضاً والنَّسائي، وقال: ثقةٌ، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وقيل: مات قبل البخاري بأربعِ سنين، ذكره الحافظُ العسقلاني، وأقرَّه العينيُّ بقوله: نعم؛ لأنَّ البخاري مات سنة ستٍّ وخمسين ومائتين.
(أَخْبَرَنَا شَاذَانُ) بالمعجمتين، اسمه: عبدُ العزيز بن عثمان بن جَبَلة _ بالجيم والموحدة المفتوحتين _ (أَخُو عَبْدَانَ) بفتح المهملة وسكون الموحدة، المروزي وهو أكبرُ من شاذان، وقد أكثرَ البخاري في «صحيحه» عن عبدان وأدركَ شاذان، ولكنَّه روى عنه بواسطة هنا، وتوفي سنة تسع وعشرين ومائتين، وأبوهما عثمانُ بن جَبَلة روى عنه ابنُه عبدان عند البخاريِّ ومسلم، وروى عنه شاذان عند البخاري في غير موضع.
(أَخْبَرَنَا أَبِي) هو: عثمانُ بن جبلة، قال: (أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ) أي: ابن أنس بن مالك، أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ) هو: ابنُ المطلب عمُّ النَّبي صلى الله عليه وسلم (رَضِيَ اللهُ عَنْهُما بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ) وكان في مرض النَّبي صلى الله عليه وسلم
ج16ص444
(وَهُمْ يَبْكُونَ) جملةٌ حالية (فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟) قال الحافظُ العسقلاني: لم أقف على الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر أو العبَّاس رضي الله عنهما، ويظهرُ لي أنَّه العبَّاس رضي الله عنه. وقال العينيُّ: لا قرينةَ تدلُّ على ذلك.
(قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا) لأنَّهم كانوا يجلسون معه، فخافوا أن يموتَ من مرضهِ فيفقدوا مجلسَه فيبكون حزناً على فوات ذلك (فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي: فدخلَ هذا القائل «ما يُبكيكم» على النَّبي صلى الله عليه وسلم (فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ) قال الحافظُ العسقلاني: كذا أفردَ بعد أن ثنَّى، والمراد: من خاطبهم، وقد قدَّمت رجحان أنه العبَّاس رضي الله عنه لكون الحديث الثاني من رواية ابنه، وكأنَّه إنما سمع ذلك منه.
وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ هذا بعيدٌ؛ لأنَّ الوصية في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أعمُّ من الوصية التي في حديث العبَّاس؛ لأنَّها في حديثه مختصَّة بالأنصار بخلاف ابن عبَّاس رضي الله عنهما فأين ذا من ذاك حتى يكون هذا دليلاً على أنَّ القائل في قوله: فقال: ما يُبْكيكم؟ هو العبَّاس رضي الله عنه من غير أن يكون أبا بكرٍ رضي الله عنه، انتهى.
وأنت خبير بأنه كما قال بعيد لكن أعمَّيةُ الوصية في الحديث الثاني في حيز المنع، على أنه لم يجزم به كما لا يخفى على من تأمل والله تعالى أعلم.
(قَالَ) يحتمل أن يكون هذا القائل هو القائل «ما يبكيكم؟»، ويحتمل أن يكون الراوي وهو أنس رضي الله عنه وهو الأظهر (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَصَبَ) الواو فيه للحال، وعصَب: بتخفيف الصاد، وهو متعدٍّ، وكذلك عصَّب _ بالتشديد _ يقال: عصب رأسه بعصابة عصباً، وعصبَ رأسه تعصيباً.
(عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ) وهو مفعول عصب، وفي رواية المستملي: <حاشية بردة>، ويُروى: <وقد عصبَ رأسه بحاشية بردٍ>. والبُرد: بضم الموحدة، نوعٌ من الثِّياب معروفٌ، والجمع أبراد وبُرود، والبُردة: الشَّملة المخطَّطة، وقيل: كساء أسود مربَّع
ج16ص445
تلبسه الأعراب، وجمعها: بُرُد.
(قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ) استنبط منه بعضُ الأئمة أنَّ الخلافةَ لا تكون في الأنصار؛ لأنَّ من فيهم الخلافة يُوصُون، ولا يوصَى بهم، ولا دَلالة فيه إذ لا مانعَ من ذلك (فَإِنَّهُمْ كَرِشِي) بفتح الكاف وكسر الراء (وَعَيْبَتِي) بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الموحدة؛ أي: بطانتي وخاصَّتي.
قال الخطَّابي: ومثله بالكرش لأنَّه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به نماؤه وبقاؤهُ، وقد يكون الكرش: أهل الرَّجل وعياله يقال: لفلان كرش منثورةٌ؛ أي: عيال كثيرة.
والعيبة: ما يَحُوزُ فيه الرَّجل نفيس ما عنده، يريد أنَّهم موضع سرِّه وأمانته. وقال ابنُ دريد: هذا من كلامهِ صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يُسبقْ إليه. وقال الكرمانيُّ: والكَرِش لكلِّ مجترٍّ: بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة: مستودعُ الثِّياب، والأوَّل أمر باطنٌ والثَّاني ظاهرٌ فيحتملُ أنَّه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهِم في أمورهِ الظَّاهرة والباطنة.
قال الحافظُ العسقلاني: والأوَّل أولى وكلٌّ من الأمرين مستودعٌ لما يخفى فيه.
(وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ) وهو ما وقعَ لهم من المبايعة ليلة العقبة، فإنَّهم كانوا بايعوا على أن يؤوا النَّبي صلى الله عليه وسلم وينصروهُ على أنَّ لهم الجنَّة فوفوا بذلك وبقيَ دخولهم الجنَّة.
(فَاقْبَلُوا) أي: إذا كان الأمر كذلك فاقبلوا (مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ) والتَّجاوز عن المسيءِ مخصوصٌ بغير الحدود، وفيه وصيَّة عظيمةٌ لهم وفضيلةٌ عزيزةٌ رضي الله عنهم.
ومطابقة الحديث أظهرُ من أن يخفى، وقد أخرجه النَّسائي في «المناقب» عن شيخ البخاري أيضاً.