
من عين الانصاف الذي لا يخفى على أي متابع أن مستقبل موريتانيا، في هذا المنعطف الحساس من تاريخها، يتوقف قبل أي شيء على نوعية الإنسان الذي يتولى إدارة المرفق العمومي، ليضطلع بالمسؤوليات، ويؤطّر مسار التقدّم، فالمقدّرات الطبيعية – على وفرتها وتنوعها – لا تُنتج تنمية، ولا تصنع نهضة، ما لم تُسخَّر لها العقول المؤهلة، والكوادر المدربة، والأطر القادرة على تحويل الإمكانات إلى إنجازات.
ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار في المصادر البشرية باعتباره الأساس الذي تُبنى عليه خطط الإصلاح ومشاريع البناء.
لقد أثبتت التجارب المعاصرة أن الدول لا تُقاس بما في باطن أراضيها من معادن، ولا بما في بحارها من ثروات، بل بما تمتلكه من عقول كفوءة وطاقات بشرية قادرة على التخطيط، والإدارة، والتحديث.
وهذه حقيقة لم تعد محلّ جدل: فالموارد تُستنزف، أما الإنسان المؤهّل فهو المورد الوحيد الذي تتعاظم قيمته كلما أحسنّا تكوينه واستثمرنا فيه.
إن موريتانيا اليوم أحوج ما تكون إلى اعتماد مبدأ الكفاءة معياراً وحيداً لتولي المسؤوليات.
فالمناصب ليست غنائم، ولا درجات السلم الإداري حيزاً للتزاحم القبلي أو السياسي، بل هي مساحات لخدمة الوطن، لا يليق بها إلا من جمع التخصص والخبرة والنزاهة.
ولا ينقص موريتانيا رجالٌ ونساءٌ أكفاء، ولكن يعوزها – في كثير من الأحيان – حسن الاختيار وصرامة معايير الانتقاء. فالتنمية لا تتحقق بالشعارات ولا بالمجاملات، بل بترتيب الرجال والنساء في أماكنهم المناسبة، “فيوضع الرجل المناسب في المكان المناسب”، على قاعدة التخصص أولاً، والكفاءة ثانياً.
حين يطالع المرء بعض المراسلات الإدارية المتداولة اليوم داخل المؤسسات العمومية، يقف على واقع يبعث على الأسى؛ لغة مهلهلة، أساليب مرتبكة، ومضامين تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الدقة المهنية.
وتلك ليست مجرد أخطاء لغوية أو منهجية عابرة، بل مؤشرات خطيرة على ضعف التكوين الإداري، وقصور أدوات العمل، وانحدار مستوى التأهيل.
فاللغة الإدارية ليست زينة شكلية، وإنما هي مرآة المؤسسة، ومن خلالها يُقاس مستوى الاحتراف والتنظيم. فإذا اختلّ الأسلوب، واهتزّت صياغةُ الخطاب، واضطربت قواعد المراسلة، دلّ ذلك على ثغرة عميقة في تأهيل الكوادر، لا بدّ من علاجها جذرياً.
إحدى الإشكالات الجوهرية التي تعيق تطور الإدارة الوطنية هي ما أسميه "الازدواجية اللغوية القسرية"، فمنذ الإصلاح التربوي أواخر سبعينيات القرن الماضي، تركز التكوين في مؤسسات التعليم والتدريب على اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية دستورياً، وهذا خيار طبيعي ومنسجم مع هوية البلاد ونصوصها القانونية.
غير أنّ الواقع العملي داخل الكثير من المرافق الإدارية يفرض استخدام اللغة الفرنسية كلغة للتسيير اليومي، وإعداد التقارير، وتحرير المراسلات، ووضع الوثائق الفنية.
وهكذا يجد الإطار المكوَّن بالعربية نفسه أمام هُوة لغوية تعطل أداءه، وتحد من قدرته على الاندماج في محيطه الإداري، بينما تستمر المؤسسات في اشتراط لغة ليست هي لغة التكوين الرسمي، ولا هي لغة الأغلبية، مما يخلق تناقضاً مؤسسياً فجًا.
هذه المعضلة ليست مسألة لغة فحسب؛ إنها عقبة تنموية، لأنها تحوّل اللغة من أداة إلى حاجز، وتشتت الجهد بين مسارين متناقضين: تكوين بالعربية… وعمل بالفرنسية.
إن تجاوز هذه الحالة يتطلب رؤية شجاعة ومتدرجة، ترتكز على ثلاثة محاور أساسية:
1. مواءمة لغة التكوين مع لغة العمل: فإما أن تُعرَّب الإدارة فعلياً ببرامج واضحة، أو يُعزَّز التكوين الثنائي بما يضمن جاهزية الأطر للعمل بلغتين دون ارتباك.
2. تأهيل الكوادر تكويناً مستمراً: عبر برامج لغوية ومهنية تضمن رفع مستوى الأداء، وتحسّن لغة المراسلات، وتعيد الاعتبار للمعايير المهنية.
3. اعتماد الكفاءة معياراً جامعاً:
وذلك باختيار الأقدر، سواء كان عربياً أو فرانكفونياً أو مزدوجاً، المهم أن يكون متخصصاً في مجاله، ملماً بأدوات عمله، قادراً على خدمة مؤسسته ووطنه.
إن موريتانيا لا ينقصها الذكاء، ولا المواهب، ولا الرغبة في النهوض. ما ينقصها هو إدارة الموارد البشرية بجدية، وتحويل الإنسان إلى محور الأولوية، والقطع مع الفوضى الإدارية، والازدواجية اللغوية، وسياسات التعيين التي تضع الولاء قبل الكفاءة.
فإذا صلُح الإنسان، صلحت المؤسسات، وازدهرت التنمية، وارتفعت البلاد إلى ما يليق بتاريخها ومقدراتها
موقع : تجكجه انفو

