
تتقدّم الولايات المتحدة بخطواتٍ متسارعة نحو إدارةٍ مباشرةٍ للملف الإنساني والأمني في غزة، متجاوزةً دورها التقليدي كوسيطٍ بين الأطراف، لتتحوّل فعليًا إلى “المُشغِّل الميداني” للمساعدات ووقف إطلاق النار.
هذا التحوّل، الذي تقوده واشنطن عبر مركز التنسيق المدني–العسكري الأميركي (CMCC)، يضعها في موقعٍ جديد على خريطة النفوذ الإقليمي، في مرحلةٍ لا تزال هشة ومفتوحة على احتمالاتٍ متناقضة.
وقال الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة: إن “واشنطن لم تعد مجرد وسيط أو راعٍ للتفاهمات، بل أصبحت طرفًا مُباشرًا يُدير المشهد الإنساني – الأمني في القطاع من الخارج، مستخدمةً أدوات المراقبة والمساعدات كوسيلة لإعادة تشكيل التوازنات”.
وأضاف في مقالة تابعها المركز الفلسطيني للإعلام أن مركز CMCC، الذي يتخذ من كريات غات مقرًا له، “يُشرف على إدارة آليات إدخال المساعدات ومراقبة الالتزام بالهدنة عبر طائراتٍ مسيّرة وتقنيات مراقبة متطورة، بمشاركة دولٍ ومنظماتٍ متعددة، في وقتٍ بدأ فيه الدور الإسرائيلي يتراجع لصالح الحضور الأميركي”.
وكشفت صحيفة واشنطن بوست أنه ابتداء من يوم الجمعة، باتت مسؤولية اتخاذ القرارات حول دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بيد مركز التنسيق الأمريكي بدلا من وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية
وبحسب عفيفة، فإن “هذا المشهد يُعيد إلى الواجهة ما يُعرف بـ خطة ترامب المحدَّثة، التي تسعى لتطبيق ترتيبات جديدة في غزة، لكنها تصطدم بعقبتين محوريتين: الأولى، غياب القوة الدولية (ISF) التي يُفترض أن تتولى تطبيق ترتيبات نزع سلاح حماس، وسط رفضٍ دولي لإرسال جنودٍ إلى القطاع، وإصرار الحركة على التمسك بسلاحها؛ أما الثانية، فهي محاولات واشنطن هندسة ما يُعرف بـ نموذج رفح كمنطقة تُدار من دون وجودٍ مباشرٍ لحماس، وهو ما تراه إسرائيل مشروطًا بملف الرهائن وتعطيل الأنفاق”.
وتشير التقديرات إلى أن النقاشات حول “الممر الآمن” لمقاتلي حماس خلف ما يُسمى بالخط الأصفر لا تزال موضع خلافٍ حاد، إذ يخشى وسطاء آخرون أن يؤدي أي تقسيمٍ إداري أو أمني داخل القطاع إلى تكريس الانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني.
وختم وسام عفيفة بالقول: “نحن أمام مشهدٍ تُديره واشنطن عمليًا، لكن دون تفويضٍ أممي أو غطاءٍ قانوني واضح. هي تُدير الهدنة وتختبر الأطراف، لكنها لا تملك قوة فرضٍ على الأرض. لذلك تبقى غزة أمام ثلاثة سيناريوهات مفتوحة: هدنة طويلة تُدار عن بُعد، أو غزة جديدة داخل غزة بنفوذٍ دولي محدود، أو انتكاسة تُعيد القتال إلى الواجهة”.
إعلان دعائي
من جانبه يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد هلسة أن ما يُتداول في الأوساط الإعلامية الأميركية حول تولي واشنطن إدارة المعابر والمساعدات في قطاع غزة، بحيث يصبح الدور الإسرائيلي ثانويًا، لا يتعدّى كونه خطابًا دعائيًا يهدف إلى التهدئة وطمأنة الشركاء الإقليميين والمحليين.
ويقول هلسة في تصريحات لمراسلنا: “الحديث عن إدارة أميركية مباشرة للمعابر يحمل أبعادًا سياسية أكثر من كونه خطة تنفيذية حقيقية. فالولايات المتحدة تحاول من خلال هذا الطرح إقناع الأطراف المترددة بأنها جادة في تحجيم الدور الإسرائيلي في الملف الإنساني، لتشجيع هذه الأطراف على الانخراط بفعالية في ترتيبات المرحلة التالية”.
ويضيف أن الهدف الحقيقي من هذه التسريبات هو بناء الثقة ودفع الشركاء الإقليميين نحو المشاركة العملية، في وقتٍ لم تُبدِ فيه إسرائيل التزامًا فعليًا بما هو مطلوب منها في ما يخص المعابر والمساعدات.
ويتابع هلسة متسائلًا: “هل يُعقل أن تتخلى إسرائيل عن ورقة أمنية بهذه الأهمية، تُعدّ إحدى أدوات الضغط والمساومة الأساسية، خصوصًا في عامٍ انتخابي؟”.
ويختم بالقول إن الحديث الأميركي عن تقليص الدور الإسرائيلي يبدو أقرب إلى المناورة السياسية منه إلى التحول الميداني الحقيقي، مؤكدًا أن التطورات المقبلة ستكشف مدى واقعية هذه الطروحات على الأرض.
تجاوز الإسرائيلي
وفي السياق، قال محمد أبو ليلى: “أعتقد أن هذا القرار يعكس تحوّلًا أميركياً نحو إدارة مباشرة للملف الفلسطيني، بما يعني تجاوز الدور الإسرائيلي مؤقتاً دون المساس بالتحالف الاستراتيجي، ما يشير إلى سعي واشنطن لتكريس نفوذها الميداني وفرض مقاربة جديدة لما بعد الحرب ضمن الرؤية أو الخطة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ترامب والمعروفة بـ مجلس السلام”.
وحسب أبو ليلى في تصريح لمراسل المركز الفلسطيني للإعلام، فإنه يعتقد أن الخطوة تُعدّ جزءًا من هندسة الوضع الإنساني تمهيدًا لترتيبات سياسية وأمنية تتعلق بـ”اليوم التالي” في غزة، بعيداً عن الإرادة الوطنية الفلسطينية.
كما أنها تمهّد لتشكيل قنوات أميركية–عربية مباشرة تتجاوز مؤسسات الشعب الفلسطيني، بما يضعف أي مرجعية فلسطينية في غزة ويُكرّس سياسة الوصاية الخارجية، وهذه جوهر الخطوة وفق أبو ليلى.
وتابع: “هذا التحكّم الأميركي قد يُستخدم كوسيلة ضغط جديدة على المقاومة وسكان غزة، عبر ربط المساعدات بالمواقف السياسية والأمنية، مما يُفرغ البُعد الإنساني من مضمونه”.
ورجح أن السيطرة الأميركية المباشرة على ملف المساعدات ليست خطوة إنسانية بريئة، بل هي محاولة لتكريس واقع سياسي جديد في غزة تحت عنوان الإغاثة.
وختم: “بكل الأحوال، فإن الشعب الفلسطيني، الذي واجه الحصار والعدوان، سيرفض أي وصاية أو إعادة هندسة لمصيره تحت غطاء إنساني، ويتمسك بحقّه في إدارة أرضه وموارده ومساعداته وفقًا لأولوياته الوطنية”.
المركز الفلسطيني للإعلام:

