وأنا أواصل الكتابة في هذه السلسلة عن رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، كنت أظن أن خيوط القصة جميعها اكتملت لدي، وما عليّ إلا أن أباشر كتابتها، لكن يبدو أن هذا الرجل تتكرر عجائبه.
فخلال تجوالي في إحدى مكتبات العاصمة كوالالمبور طالعتني صورته على غلاف كتاب جديد من تأليفه، يحمل عنوانا مثيرا، لا يمكن أن تصدق أن كاتبه يقترب من إتمام قرن من عمره "التقاط الأمل: الكفاح مستمر من أجل ماليزيا جديدة".
تقول دار النشر عن الكتاب إن قصته بدأت من تقاعد مهاتير، وهو ما منحه أخيرا الوقت لمتابعة قضايا قريبة من قلبه مثل "محنة الشعب الفلسطيني، وتجريم الحرب" لكن مشاكل ماليزيا سحبته سريعا إلى دوامة المواطن.
غلاف كتاب مهاتير محمد الجديد "التقاط الأمل" (الجزيرة)
معضلة الملايو
تتابع دار النشر بقولها "سواء اتفق المرء مع الدكتور مهاتير أم لا، فمن المستحيل إنكار تأثيره حتى الآن على المشهد السياسي الماليزي، وكفاحه غير المكتمل لتوجيه بلاده بعيدًا عن الديناميكيات السياسية المدمرة، التي غذت الفساد والانقسام في البلاد فترة طويلة".
قبل توليه السلطة بنحو 11 عاما أصدر مهاتير محمد كتابا بعنوان "معضلة الملايو" انتقد فيه بشدة شعب الملايو، واتهمهم بالكسل والرضا بأن تظل بلادهم دولة زراعية متخلّفة، رغم توفر الإمكانات للتقدم والازدهار.
ويقول "بعد 23 عاما من وجودي في رئاسة الوزراء، إلا أن المشكلات الأساسية التي يعاني منها الملايو -والتي أوضحتها في كتابي معضلة الملايو- لا تزال على حالها، وبعضها ليس أقرب منها للحل الآن منها حين بدأت بالحديث عنها".
عند الحديث عن شخصية مهاتير، لا بد من التعرف على كثير من التفاصيل، التي يمكنها أن تؤهل رجلا عاش حياة متواضعة وبسيطة جدا في شبابه ليصبح طبيبا ثم رئيسا للوزراء، وقائدا لنهضة بلاده، رغم كثير من التحديدات التي واجهته.
قفزات نوعية
حين تسلم مهاتير رئاسة الوزراء، كان عليه أن يواجه ملفات معضلة، فبلاده تئن تحت وطأة أوضاع اقتصادية متردية، يعيش فيها نحو 70% من السكان تحت خط الفقر، وتضطرب في موج متلاطم من خلافات العرق واللغة والثقافة والدين، وتعصف بها خلافات الحكم والسياسة.
لكن الرياح وافت أشرعة الربان فانطلق كالسهم ليحقق أهدافه، نستعرض أهم ملامح النهضة التي سجلت في عهده، حيث كان الشعار "إن تعثرتْ خطوةٌ لحقت بها أخرى تُقيلها".
خلال سنوات من حكمه، أصبحت ماليزيا واحدا من نمور آسيا، وتضاعف دخل الفرد فيها عدة مرات، إذ زاد دخل الفرد السنوي من ألف إلى 16 ألف دولار، وانخفضت نسبة الفقر إلى أقل من 4%، واصبحت نسب البطالة دون 3%، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات إلى 98 مليارا، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليارا إلى 200 مليار.
بنى مهاتير خطته لنهضة ماليزيا بالتركيز على 3 محاور بصفة أساسية هي: محور التعليم، ويوازيه محور التصنيع، ويأتي في خدمتهما المحور الاجتماعي.
ويدعم هذه المحاور عقد قيَمي يقوم على تطهير البلاد من الفساد، ورفع الكفاءة والتحلي بالأمانة، وتبع ذلك استقرار سياسي ومجتمعي، شكل حاضنة حقيقية لهذه النهضة.
السر في التعليم
بنى مهاتير فلسفته في التعليم، على أنه ليس منحصرا في الحصول على المعرفة، لكنه أساس في بناء الشخصية الجيدة، التي تتمتع بالثقة بالنفس والسمات القيادية.
خصصت الحكومة للتعليم ميزانيات هائلة، قدرت في بعض السنوات بربع الميزانية العامة، ويبلغ ما تنفقه ماليزيا على التعليم نحو 3 أضعاف ما يُنفَق على الجيش والدفاع، ولنا عودة إلى هذا الموضوع نهاية هذا التقرير.
واهتمت حكومة مهاتير بمحو الأمية وتعلم اللغات، وفتح المجال للبعثات التعليمية والمنح دراسية على نفقة الدولة، وتم ابتعاث مئات آلاف الطلاب إلى الجامعات الغربية بهدف الاستفادة من تجاربهم ونقلها إلى بلادهم.
إلى جانب ذلك، اهتمت الحكومة بالتدريب والتأهيل الحرفي والمهني والبحث العلمي، وقويت العَلاقة بين مراكز البحوث والجامعات وبين القطاع الخاص، فتشاركت الحكومة مع المصانع والمؤسسات المالية والاقتصادية في دعم كل الأنشطة البحثية.
ورغم النجاحات التي تحققت في مجال التعليم في ماليزيا، فإن مهاتير عبر كثيرا عن خيبة أمله في عدم وصول كثير من أبناء الملايو إلى درجات أعلى في التحصيل العملي، وعبر عن أسفه "في عدم تغيير الملايويين، وتشكيل الملايوي الجديد، وتسليحه بالمعرفة والمهارات اللازمة لينجح في حياته وينال المكانة التي يستحقها في بلاده".
تحديات مزمنة
وعزا مهاتير ذلك إلى تحديات جمة واجهته في تطوير العملية التعليمية، كان من أبرزها موضوع اللغة المعتمدة في العملية التعليمية، وقد خاض معارك كبيرة مع القوميين الملايويين من أجل إدخال الإنجليزية في مناهج تدريس الرياضيات والعلوم.
كما واجه تحديات في كيفية التعامل مع التعليم الديني، الذي كان يشرف على وضع مناهجه في المدارس "المركز الديني" الذي كان يشرف على جميع الأنشطة والفعاليات الدينية في البلاد، وقد ولّد ذلك خلافات كبيرة مع وزارة التعليم حول الآلية التي يجب أن تدرس بها تعاليم الإسلام في المدارس.
ومن التحديات الأخرى التي واجهت مهاتير في العملية التعليمية: وجود 3 عرقيات مختلفة في البلاد كل منها له لغته ودينه وثقافته وتقاليده الخاصة، كانت المعضلة في كيفية جمع أبناء هذه العرقيات تحت سقف واحد في المنشآت التعليمية، ليتلقوا منهاجا تعليميا واحدا.
التوجه نحو التصنيع
قاد مهاتير ثورة صناعية جديدة، ومع تسلمه مهامه كانت هناك آلية حكومية تشرف على التصنيع ممثلة في إنشاء "شركة ماليزيا للصناعات الحكومية" (هيكوم).
كانت نظرية مهاتير تقوم على البدء من الصناعات الثقيلة، لأن الدولة تمتلك الإمكانات بهذا المجال، خصوصا مع وجود التعهدات بتوفر الدعم من الدول الصديقة، كما أن الدول المتقدمة باتت أقل كفاءة بهذا المجال، خصوصا مع ارتفاع أسعار الأيدي العاملة لديها.
وبدأت الفكرة بإنشاء 4 مصانع ضخمة للفولاذ والإسمنت وللتعليب وصفائح القصدير، ومصنع للسيارات، وتقوم على ضرورة مشاركة الملايويين في صياغة مستقبل البلاد، واستوعبت هذه المصانع وتفرعاتها 40% من العمالة المحلية.
ومما تذكره بعض التقارير أنه تم خلال تلك الفترة أنشئ أكثر من 15 ألف مشروع صناعي برأس مال إجمالي وصل إلى 220 مليار دولار، وفرت مليوني فرصة عمل للشعب الماليزي.
أمواج الحرب الباردة
دائما ما تحيل مثل هذه القفزات النوعية الهائلة إلى تساؤلات عن خفاياها، ولماذا حقق هذا القائد دون غيره الإنجاز؟ هل كان للرجل دور خفي في المعادلة الدولية؟ وهل تطلب ذلك دعما غير محدود للبقاء في السلطة لخدمة أهداف جهة ما؟
كما ذكرت في التقرير الأول، أن الجدل حول شخصية مهاتير طال كل شيء في حياته، وبدأ منذ لحظة ظهور في المشهد السياسي ولم ينته حتى الآن، وطرح خصومه كثيرا من التحليلات التي تضرب في حقيقة ما أنجزه لصالح بلاده.
وهنا -ونحن نتوخى الحرص على طرح جميع الآراء ووجهات النظر- لا بد من الإشارة إلى طرح يتلخص في أن نهضة ماليزيا في عهد مهاتير ما كانت إلا سنا في ترس الحرب الباردة بين الشرق والغرب.
وبرأي البعض ما كان هذا النجاح -الذي حققه مهاتير- إلا مخططا غربيا من أجل لجم أطماع الصين في المنطقة، حيث دفعت الولايات المتحدة حلفاءها في المنطقة إلى ضخ أموال الاستثمارات في السوق الماليزية، وحثتهم على نقل تجارب النجاح إلى هناك، وهو ما وافق هوى مهاتير بالتوجه شرقا، واعتماد سياسة أقل موالاة للغرب.
أين الجيش والدفاع من النهضة؟
وهنا نعود إلى نقطة طرحت بداية الحديث عن اهتمام مهاتير بالتعليم دون الجيش والدفاع، وهي نقطة يلج منها معارضو الرجل، لإثبات صحة نظريتهم في أن نهضة البلاد كانت على عين الراعي الغربي الذي لم يسمح لماليزيا بتطوير سلاحها وجيشها، وترك المهمة للوجود الأميركي في المنطقة.
وهو ما أكده مهاتير في إحدى حلقات برنامج "شاهد على العصر" حين قال إنهم اكتشفوا أن الولايات المتحدة باعتهم طائرات “إف 16” بدون الشفرات الأساسية وبدون البرمجة الكاملة التي تتيح لماليزيا الانتفاع بكافة قدرات الطائرة، بما فيها القتالية.
وأضاف أنه تبين لهم أنه لا بد لهم من العودة للولايات المتحدة إذا أرادوا أن يستخدموا الطائرة لغايات قتالية ضد أي دولة، مشددا على أن قرار استخدامها قتاليا يظل مرهونا بإرادة الأميركيين، وأنه أمام هذا الواقع، وجد الماليزيون أن الفائدة الوحيدة التي يمكن أن يجنوها من هذه الطائرات هي استخدامها في العروض العسكرية فقط.
بين المسؤولية والإقطاعية
أدرك مهاتير أن شخصية رئيس الوزراء هي الأقوى في النظام السياسي الماليزي، وقد سعى لتثبيت ذلك، من خلال فرض حضوره في شتى القرارات والمتابعات، حتى في أدق الأمور، من أجل أن يكون ذلك منهج عمل لباقي المسؤولين.
ويشير في مذكراته إلى أنه تعلم ذلك من اليابانيين الذين اهتموا بأدق التفاصيل من أجل الخروج بأفضل النتائج، ويؤكد أن ذلك سيكون مؤثرا بشكل سلبي على سرعة سير العمل، لكن السرعة تأتي مع مزيد من الاتقان.
كما يذكر كيف أنه تدخل في أمور تفصيلية ربما تبدو غير مهمة، لكنه -وهو الأعرف بالشخصية الملايوية- كان يريد أن يمنحهم دروسا في حب المبادرة وتحمل المسؤولية، وقد تدخل مرة في إصلاح أعمدة الإنارة بالعاصمة، بعد أن وجدها مهملة لا تؤدي المأمول منها، كما تدخل في ترتيب بسطات الطعام، بعد أن وجدها تشوه منظر شوارع المدينة.
في المقابل، وحتى لا تطل الثقافة الإقطاعية برأسها، فقد أظهر عدم رضاه عن التملق لرئيس الحكومة وعدم معارضته في قراراته، وحظر إطلاق اسمه على أي من الشوارع والمنشآت الحكومية.
كما كان لقيمتي التسامح والاحترام أهميتهما الخاصة عند مهاتير، ويقول إنه عندما أصبح في المسؤولية لم ينقل أحدا من الموظفين لسوء عمله -كما هو متبع بعالم السياسة- وإنما حملهم على فعل ما يريد من خلال كسب ولائهم.
ويتابع في هذه النقطة أن لا مفر من الأخطاء، لذا فإن تغيير الفريق ليس ضمانة بأن الموظفين الجدد سيكونون أفضل، وليس ضمانة لعدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى.